لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ،بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ،أما بعد:

فهذه فصول من كتاب ( لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية ) لمؤلفه الشيخ ( عمروبن عبدالمنعم سليم ) في رده على السقاف و افتراءاته على السلف الصالح.

(****الفصل الأول*****)

(نسبة التأويل إلى الصحابة رضي الله عنهم والتابعين – رحمهم الله – وبيان عدم ثبوت ذلك عنهم )

حاول السقاف إثبات مذهب الرديء ، وطريقته المبتدعة في تأويل النصوص الشرعية الواردة في الصفات بنسبة هذا المذهب إلى الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعين – رحمهم الله تعالى – وحاشاهم أن يثبت عنهم ذلك . فقال في مقدمة تعليقه على كتاب ابن الجوزي (( دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه )) – وهو كتاب خالف قيه ابن الجوزي مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات واعتقادهم فيها(1) – ( أوَّل ابن عباس قوله تعالى :{ يوم يكشف عن ساق } فقال : يكشف عن شدة ، فأول الساق بالشدة ، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (( فتح البارى )) ( 13/ 428) ، والحافظ ابن جرير الطبرى في تفسيره ( 29/38 ) ، حيث قال في صدر كلامه على هذه الآية : (( قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل : يبدو عن أمر شديد )) . قلت : ومنه سيتضح أن التأويل كان عند الصحابة والتابعين وهم سلفنا الصالح . قلت : ونقل ذلك الحافظ ابن جرير أيضاً عن : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغيرهم ) .

? قلت : هذا الذي نقله السقاف ونسبه إلى ابن عباس وجماعة من التابعين لا يصح عنهم وإليك ما ورد عنهم في ذلك ، مع بيان علل طرق كل خبر من هذه الأخبار .

? خبر ابن عبدا ? في ذلك(2) : وقد ورد عنه من طرق :
? الأول : ما رواه ابن جرير في (( التفسير ))(29/24) ، والحاكم في (( المستدرك )) (2/499) ، والبيهقي في (( الأسماء والصفات )) (746) من طريق : ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يوم يكشف عن ساق } . قال : (( هو يوم كرب وشدة )) . ولفظه عند البيهقي : (( هذا يوم كرب وشدة )) وصححه الحاكم .
? قلت : بل هذا سند ضعيف ، ففيه أسامة بن زيد ، وهو وإن كان ابن أسلم أو الليثى فكلاهما ضعيف لا يحتج به ، إلا أن ابن أسلم ضعيف جداً . وأما الليثى : فقال أحمد : (( ليس بشىء )) ، وقال عبد الله بن أحمد ، عن أبيه : (( روى عن نافع أحاديث مناكير )) ، فقلت له : (( أُراه حسن الحديث )) ، فقال :(( إن تدبرت حديثه فستعرف فيه النكرة )) . وقال ابن معين في بعض الروايات : (( ثقة )) ، وزاد في رواية الدورى : (( غير حجة )) ، أى أنه ثقة من حيث العدالة ، إلا أنه ضعيف من حيث الضبط ، وبسط الكلام في حاله يطول.

? الثاني : ما رواه ابن جرير في (( تفسيره )) (29/24) ، والبيهقى في (( الأسماء والصفات )) من طريق : محمد بن سعد بن الحسين بن عطية ، حدثني أبي ، حدثني الحسين ين الحسن بن عطية ، حدثني أبي ، عن جدي عطية ابن سعد ، عن ابن عباس : في قوله : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود } يقول :((يكشف الأمر ، وتبدو الأعمال ، كشفه دخول الآخرة ، وكشف الأمر عنه)).
? قلت : أما محمد بن سعد فهو ابن محمد الحسين ، قال الخطيب – كما في (( الميزان )) (3/560) - : (( كان ليناً في الحديث )) . وأما أبوه سعد بن محمد بن الحسين العوفى فله ترجمة في (( تاريخ بغداد ))(9/127) ، وفيه نقل الخطيب البغدادى عن الأثرم قوله : قلت لأبي عبد الله – ( أي الإمام أحمد ) – أخبرني اليوم إنسان بشيء عجب ، زعم أن فلانا أمر بالكتابة عن سعد بن العوفى ، وقال: هو أوثق الناس في الحديث ، فاستعظم ذاك أبو عبدالله جداً ، وقال : لا إله إلا الله ، سبحان الله ، ذاك جهمي امتحن أول شيء قبل أن يُخَوّفوا ، وقبل أن يكون ترهيب ، فأجابهم ؟! قلت لأبي عبدالله : فهذا جهمي إذاً ؟ فقال : فأي شيء ؟! ، ثم قال أبو عبدالله : (( لو لم يكن هذا أيضاً لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه ، ولا كان موضعاً لذلك )) . والحسين بن الحسن العوفى له ترجمة في (( تاريخ بغداد ))(8/29) ، وقد ضعفه ابن معين النسائي . والحسن بن عطية بن سعد العوفى وأبوه كلاهما من رجال التهذيب ، وهما ضعيفان، والأخير مدلس .

? الثالث : ما رواه ابن جرير في (( تفسيره ))(29/24) : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سيفان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس : { يوم يكشف عن ساق } قال : (( عن أمر عظيم ، كقول الشاعر : وقامت الحرب بنا على ساق )) .
? وسنده ضعيف ، فيه شيخ ابن جرير ، وهو محمد بن حميد وهو ضعيف الحديث ، وإبراهيم النخعى لم يدرك ابن عباس ومهران بن أبي عمر شيئ الحفظ . وقد اختلف فيه على مهران : فرواه ابن جرير عن ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن سعيد بن جبير ، قال : عن شدة الأمر . وهذا يدل على الاضطراب فيه .

*الرابع : ما رواه ابن جرير في (( تفسيره ))(29/24) ، والبيهقى في (( الأسماء والصفات )) من طريق : أبى صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : قوله :{ يوم يكشف عن ساق } قال : (( هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة )) .
 قلت : فيه أبو صالح عبدالله بن صالح – كاتب الليث – وهو ضعيف من قبل حفظه ، وعلى هو ابن أبي طلحة ، روى عن ابن عباس ولم يسمع منه ، فهو منقطع .

 الخامس : ما رواه ابن جرير الطبري في (( تفسيره ))(29/24) : حُدَّثت عن الحسين ، قال سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله :{ يوم يكشف عن ساق } – وكان ابن عباس يقول : (( كان أهل الجاهلية يقولون : شمرت الحرب عن ساق )) - : (( يعني إقبال الآخرة وذهاب الدنيا )) .
 وسنده ضعيف لجهالة شيخ ابن جرير، ورواية الضحاك عن ابن عباس منقطعة، ثم ليس هو من مسند ابن عباس ، وإنما هو من قول الضحاك .

  السادس : ما رواه الطستى في (( مسائله عن ابن عباس )) – كما في (( الدر المنثور ))(8/254) – أن نافع بن الأزرق سأله عنم قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : (( عن شدة الآخرة )) . وقد أورده السيوطى في (( الإتقان ))(1/120) من طريق الطستى : حدثنا أبو سهل السرى بن سهل الجند يسابورى ، حدثنا يحيى بن أبي عبيدة بحر بن فروخ الملكى ، أخبرنا سعيد بن أبي سعيد ، أخبرنا عيسى بن داب ، عن حميد الأعرج ، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن نافع به ، وفيه قصة .
 قلت : وهذه القصة موضوعة ، فإن حميداً الأعرج ضعيف جداً ، وله ترجمة في ((التهذيب )) ، وعيسى بن داب ، هو ابن يزيد بن داب ، قال الذهبي في ((الميزان))(33/328) : (( كان أخبارياً علامة نسابة ، لكن حديثه واه ، قال خلف الأحمر : كان يضع الحديث ، وقال البخاري وغيره : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : منكر الحديث )) . وفي الإسناد لم أعرفه .

 السابع : وأخرج ابن جرير (24/29) : حدثنى الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : شدة الأمر . وقال ابن عباس : (( هي شر ساعة تكون في يوم القيامة )) .
 قلت : وهذا سند ضعيف ، ورقاء ضعفه أحمد في التفسير ، وابن أبي نجيح مدلس وقد عنعن ، ثم إنه لم يسمع التفسير من مجاهد بن جبر .

 الثامن : ما رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة))(724) : أخبرنا علي بن عمر بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الصمد بن علي ، قال : حدثنا الحسين بن سعيد السلمي ، قال : حدثنى أحمد بن الحسن بن علي بن أربان البصرى المرادى ، قال : حدثنا الحسن بن محبوب ، عن علي بن دياب ،عن أبان بن ثعلب ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس - في قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } – قال : (( عن بلاء عظيم )) .
 قلت : وآفة هذا الإسناد جهالة رواته ، فإني اجتهدت في البحث لهم عن تراجم ، فلم أقف على من ترجمهم ، أو ذكرهم بجرح أو تعديل .

 التاسع : وأخرج ابن منده في (( الرد على الجهمية )) : حدثنا عمرو بن الربيع بن سلمان ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وعن مقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : في قوله : { يوم يكشف عن ساق } ، قال : (( شدة الآخرة )) .
 قلت :وهذا إسناد موضوع ، والمتهم به موسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعانى، قال ابن حبان : (( دجال ، وضع على ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس كتاباً في التفسير )) ، وقال ابن عدى : (( منكر الحديث )) وذكر له جملة من الأخبار ، ثم قال : (( هذه الأحاديث بواطيل )) . وعبد الغني بن سعيد أورده الذهبي في (( الميزان ))(2/642) ، وقال : (( ضعفه ابن يونس )) ، وبكر بن سهل هو الدمياطى ، ضعفه النسائي ، وقال الذهبي (1/346) في (( الميزان )) : (( حمل الناس عنه وهو مقارب الحال )) ، ومقاتل في السند الثاني هو ابن سليمان ، قال الحافظ في (( التقريب )) (6868) : (( كذَّبوه وهجروه ورمى بالتجسيم )) . والضحاك بن مزاحم لم يلق ابن عباس .

 العاشر : وروى البيهقي في (( الأسماء والصفات )) .من طريق : محمد بن الجهم، حدثنا يحيى بن زياد الفراء ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قرأ : { يوم يكشف عن ساق } . يريد : يوم القيامة لشدتها .
 قلت : وهذا سند صحيح لاعلة فيه (3) . إلا أنه ورد في (( المطبوعة )) ( يكشف ) بالياء ، وهو تصحيف ، وإنما هي ( تكشف ) فقد أورد السيوطي هذا الخبر في (( الدر المنثور ))(6/255) وقال : (( وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن منده من طريق : عمرو ابن دينار ، قال : كان ابن عباس يقرأ : { يوم يكشف عن ساق } – بفتح التاء - . قال أبو حاتم السجستاني : أي تكشف الآخرة عن ساقها ، يستبين منها ما كان غائباً.  قلت : وهذا الوجه هو الثابت عن ابن عباس ، وليس فيه على ما يدل على التأويل ، فإن قراءته على بناء الفعل للمعلوم المؤنث ثم إنه لم يفسر قراءته بالشدة – وإن حدث وفعل على هذه القراءة لم يقع في التأويل – بل الذي فسرها هو عمرو بن دينار ، وليس هو متأول بل مبين لبناء الفعل ، وصفة الفاعل . وقد ذهب ابن جرير إلى إثبات هذا القول عن ابن عباس ، فقال في (( التفسير )) (29/27) . (( وذكر عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك { يوم يكشف عن ساق } بمعنى يوم تكشف عن شدة شديدة ، والعرب تقول : كشف هذا الأمر عن ساق إذا صار إلى شدة ومنه قول الشاعر : كشف لهم عن ساقها وبدا من الشعر الصراح )) فقول ابن عباس هذا تبعاً لهذه القراءة لا يعد تأويلاً للنص . وسوف يأتي ذكر من قال بالساق من الصحابة وأئمة السلف في باب : إثبات صفة الساق للرب جل وعلا – إن شاء الله تعالى - .


( ***** الثاني ********)

فصل : في بيان عدم ثبوت التأويل عن مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وغيرهم من أئمة السلف

وأما ما ذكره السقاف من نسبة التأويل إلى جماعة من أئمة السلف فغير صحيح ، وأفضل وسيلة لإثبات ذلك : ذكر الأخبار الواردة عنهم في التأويل وبيان عللها .

1 – خبر مجاهد بن جبر – رحمه الله - : أخرجه ابن جرير (29/24) من طريق : ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد به . وقد سبق ذكر علة هذا الإسناد . وأخرج ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربى ، وابن حميد ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد { يوم يكشف عن ساق } قال : شدة الأمر وجده . قال ابن عباس : هي أشد ساعة في يوم القيامة .
 قلت : ابن جريج مدلس وقد عنعن ، ثم إنه لم يسمع التفسير من مجاهد كما نص عليه ابن معين . ففي (( سؤالات ابن الجنيد )) له (37) : (( سألت يحيى بن معين ، قلت : ابن جريج سمع من مجاهد شيئاً ؟ قال : حرفاً أو حرفين ، قلت : فمن بينهما ؟ قال لا أدري )) . وقال : (595) : (( وسمعت يحيى بن معين يقول : سمع ابن جريج من مجاهد حرفاً واحداً في القراءة : { فإن الله لا يهدي من يضل } قال : لا أدري كيف قرأه يحيى بن معين ، ولم يسمع منه غيره ، كان أتاه ليسمع منه ، فأتاه فوجده قد مات ))

2 – خبر سعيد بن جبير – رحمه الله - : أخرجه ابن جرير (29/24) : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن جبير قال : عن شدة الأمر .
 قلت : وهذا إسناد ضعيف ، وقد سبق بيان علته . لكن قال السيوطي في (( الدر المنثور ))(6/255) : (( وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، أنه سئل عن قوله عز وجل : { يوم يكشف عن ساق } ، فغضب غضباً شديداً ، وقال : إن أقواماً يزعمون أن الله يكشف عن ساقه ، وإنما يكشف عن الأمر الشديد )) .  قلت : وهذا الخبر لم يورد لنا السيوطي إسناده حتى نتبينه من حيث الصحة والضعف ، فلا حجة للسقاف فيه ، خصوصاً مع ما فيه من النكارة ، من حيث إنكار سعيد بن جبير على من يثبت صفة الساق للرب جل ذكره ، مع أن جمعاً من الصحابة أثبتوها له كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في باب أدلة إثبات الساق .

3 – خبر قتادة بن دعامة – رحمه الله : ثابت عنه ، وقتادة من الموصوفين بالكلام في القدر وهي بدعة مأخوذة عليه ومثلها هذا التأويل ، فهو مخالف لما ورد به الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعوام أهل العلم من الأئمة ، وسوف يأتي تفصيل ذلك . وأزيد السقاف بياناً ، فأقول له : وممن رُوى عنه أنه فسر هذه الآية على تأويل عكرمة ، وإبراهيم النخعي ، والربيع بن أنس وإليك خبر كل واحد منهم .

4 – خبر عكرمة – رحمه الله - : أخرجه البيهقي في (( الأسماء والصفات )) من طريق : أبي بكر يحيى بن أبي طالب ، أخبرنا حماد بن مسعدة ، أخبرنا عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرمة سئل عن قوله عز وجل : { يوم يكشف عن ساق } قال : قال : (( فأخبرهم عن شدة ذلك )) .
 قلت : وهذا إسناد ضعيف ، فيه يحيى بن أبي طالب ، وهو مختلف فيه بين أهل العلم ، وعلى التحقيق فهو ضعيف .  فأما من عدله : فالدار قطنى ، قال : (( لا بأس به عندي ، ولم يطعن فيه أحد بحجة )) وأمر البرقاني أن يخرج له في (( الصحيح )) ، قال الذهبي : (( الدار قطنى فمن أخبر الناس به )) . وقال أبو حاتم : (( محله الصدق )) ، وليس صاحب هذا الوصف ممن يحتج به عنده.  وجرحه غيرهم : فقال أبو أحمد الحاكم : (( ليس بالمتين )) . وقال موسى بن هارون : (( أشهد عليه أنه يكذب )) . قال الذهبي : (( عنى في كلامه ولم يعن في الحديث فالله أعلم )) .  قلت : هذه إحالة على جهالة ، ولا بد لهذا القول من دليل . وخط أو داود على حديثه .  قلت : أما الدار قطنى فمتساهل في التوثيق ، وأما قول أبي حاتم : (( محله الصدق )) فهذا الوصف يطلقه على من توقف فيه ، فلم يطرح حديثه ، ولم يحتج به ، بل يُلحق بأحد القسمين بعد السبر والتتبع . فقد روى الخطيب في (( الكفاية )) بإسناده إلى ابن أبي حاتم قال : (( وإذا قيل أنه صدوق ، أو محله الصدق ، أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه )) .  قلت :فأفضل أحوال يحيى بن أبي طالب أن يكون محتجاً به إذا لم يتفرد برواية الحديث أو الخبر ، فكيف إذا تفرد بخبر في تأويل صفة من صفات الرب جل وعلا ؟‍‍! لا شك أن حديثه – أو خبره – يكون منكراً ، ولا يحتج به في هذه الحالة ، وقد أكثر السقاف بوصف أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم – مع أن رواتها ثقات – بالشذوذ لتفرد أحد الرواة بذكر صفة من صفات الرب جل وعلا .

5 - خبر إبراهيم النخعي – رحمه الله - : فرواه ابن جرير (29/24) : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { يوم يكشف عن ساق } : (( ولا يبقى مؤمن إلا سجد ، ويقسو ظهر الكافر ، فيكو عظماً واحداً )) .
 قلت : وسنده ضعيف لضعف ابن حميد .

6 – خبر الربيع بن أنس – رحمه الله - : أخرجه ابن جرير (29/27) من طريق : أبي جعفر الرازي ، ع الربيع في قول الله : { يوم يكشف عن ساق } ، قال : (( يكشف عن الغطاء )).
 وسنده ضعيف لضعف أبي جعفر الرازي ، وسوف يأتي الكلام على حاله تفصيلاً في الجزء الثاني .

 خلاصة البحث : فمما سبق : يتبين لنا أن ابن عباس لم يصح عنه التأويل ، ولا عن أئمة التابعين كمجاهد ، وعكرمة ، وغيرهم الذين نسبهم السقاف إلى التأويل ، ليشيد بدعته بهذا النسب الزائف ، وهذا التدليس الفاحش .


( ***** الثالث ********)

ما نسبه السقاف إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان من تأويل صفة اليد والرد عليه

قال السقاف : ( وأوّل سيدنا ابن عباس ? أيضاً قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } قال : بقوة ، كما في (( تفسير )) الحافظ ابن جرير الطبري (27/7)) . حتى قال : ( وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره (27/7) تأويل لفظة (أيد ) الواردة في قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } بالقوة أيضاً عن جماعة من أئمة السلف منهم : مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان )) .

 قلت :وهذا فيه نظر من حيث الإسناد عنهم ، وسوف نبين علة إسناد كل خبر من هذه الأخبار فأقول وبالله التوفيق :
1 – خبر ابن عباس ? : أخرجه ابن جرير (27/6) من طريق : أبي صالح ، عن معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس به .  قلت : وهذا سند ضعبف ، فأبي صالح هو كاتب الليث وهو ضعيف من قبل حفظه ، وعلى هو ابن أبي طلحة ، متكلم في ضبطه ، وروايته عن ابن عباس منقطعة ، وقال ابن حبان : (( لم يره )) .
2 – وأما خبر مجاهد – رحمه الله - :  فراوية عنه ابن أبي نجيح ولم يسمع التفسير منه كما مر ذكره .
3 – وأما خبر سفيان – رحمه الله - :  ففيه شيخ ابن جرير ابن حميد وهو ضعيف ، ومهران وهو سيئ الحفظ . ولكن هو صحيح من قول قتادة ، ومنصور بن المعتمر ، وابن زيد ، ولا حجة في تأويلهم لمخالفته للصحيح الثابت عن النبي ? في إثبات صفة اليد كما سوف يأتي ذكره وبيانه – إن شاء الله تعالى - . ثم إن هذا لا يعني أنهم لا يثبتون صفة اليد كما قد يتوهم ، فتنبه .

 وقد أنكر الإمام أحمد – رحمه الله – على من يقول : إن معنى اليد القوة . قال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي في ((اعتقاد الإمام أحمد)): (( وكان يقول : إن لله تعالى يدين ، وهما صفة في ذاته ليستا بجارحتين وليستا بمركبتين ، ولا جسم ، ولا جنس من الأجسام ، ولا صفة من جنس المحدود والتركيب والأبعاض والجوارح ، ولا يقاس على ذلك ، ولا مرفق ، ولا عضد ، و فيما يقتضي ذلك من إطلاق قولهم يد ، إلا ما نطق القرآن به ، أوصح عن رسول الله ? فيه . قال الله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } . وقال رسول الله ? : (( كلتا يديه يمين )) . وقال الله عز وجل : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } . وقال : { والسموات مطويات بيمينه } . ويفسد أن تكون يد : القوة والنعمة ، والفضل ، لأن جمع يد ايد ، وجمع تلك أياد ، ولو كان اليد عنده القوة لسقطت فضيلة آدم ، وثبت حجة إبليس )) .

 قلت :ولو كانت هذه الأخبار التي أوردها ابن جرير في التفسير (( التفسير )) حجة في الباب لكان أول من قال بها ، ولتأول الآية ، إلا أنه صرح بإثبات اليد لله عز وجل . قال الذهبي في (( الأربعين في صفات رب العالمين )) . ((وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب ((التبصير في معالم الدين)): القول فيما أدرك علمه من الصفات خبراً ، نحو إخباره أن سميع بصير ، وأن له يدين بقوله : { بل يداه مبسوطتان } )) . وأنكر الخطيب البغدادي من يتأول اليد ، فقال في (( الكلام على الصفات )) – بتحقيقنا - : (( فإذا قلنا : لله تعالى يد وسمع وبصر ، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ، ولا نقول : إن معنى اليد القدرة ، ولا إن معنى السمع والبصر العلم ، ولا نقول : إنها جوارح ، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار ، والتي هي جوارح وأدوات للفعل ، ونقول : إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها )) .

 قلت : والخطيب منسوب إلى مذهب الأشعري ، وفيه نظر . قال إبراهيم بن محمد بن الأزهر الصريفيني في (( المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور )) : (( وكان أشعري العقيدة )) . ونقل الذهبي في ترجمة من (( السير )) (18/277) : ((وقال عبد العزيز بن أحمد الكتاني:وكان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري)) .

 فدل على ذلك أمرين :
? الأول : أن المنع من تأويل الصفات كان المذهب الأخير الغالب على الأشعري ، إذ لو يكن ، وكان التأويل هو ما مات عليه الأشعري لما نُسب الخطيب إليه وهو يقول بالمنع من التأويل .
? الثاني : وهو مترتب على الأول ، أن كتاب الإبانة آخر ما صنفه الأشعري وليس من أول مصنفاته كما ادعى السقاف ، فإنه قد صرح فيه بإثبات اليدين لله تعالى ، ونافح عن ذلك منافحة شديدة ورد على المتألة – امثال السقاف – فلو كان هذا الكتاب من أول مصنفاته ، وأن القول بالتأويل هو آخر أقواله ، لما نُسب إلى مذهبه الخطيب – رحمه الله - .


( ***** الرابع ********)

ما نسبه السقاف إلى ابن عباس وغيره من تأويل قوله تعالى :{ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا }

قال السقاف : (وأول أيضاً سيدنا ابن عباس النسيان الوارد في قوله تعالى : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } بالترك ، كما في تفسير الحافظ الطبري ) .

 قلت : الآثار الواردة في ذلك ضعيفة من حيث الإسناد . فالطريق إلى ابن عباس : فيه علي بن أبي طلحة ، وهو لم ير ابن عباس ، وفيه لين كما مر بيانه . وله طريق آخر من رواية : أبناء وأحفاد عطية بن سعد العوفى عن ابن عباس ، وقد مر بيان عوار هذه الترجمة . ورواية مجاهد وردت عنه من ثلاث طرق :
? الأول : عن ابن أبي نجيح عنه ، ولم يسمع منه التفسير كما مر ذكره .
? الثاني : فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو تالف ، وسفيان بن وكيع وقد ابتلى بوراقه ، وكان يدس له الأحاديث فيرويها ، وروجع في ذلك فلم يرجع .
? الثالث : من رواية عبد العزيز ، عن أبي سعد ، عن مجاهد .
 قلت : وأبو سعد هذا لم أتبينه .

التنبيه هنا على أن النسيان ليست صفة من صفات الله عز وجل ، تعالى الله وتنزه ، وإطلاق الترك على النسيان هنا واجب ، وليس بتأويل . ذلك لأن صفات الرب عز وجل على قسمين ؛ صفات ثبوتية ، وصفات سلبية .
? والصفات الثبوتية : هي ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه في الكتاب ، أو على لسان نبيه ? ، وهي صفات كمال لا نقص ، مثل العلم ، والحياة ، والقدرة ، واليد ، والاستواء على العرش ، .. ولم يرد في الكتاب أو في السنة نفي صفة من هذه الصفات حتى نحكم على أنها صفات سلبية – أي صفات نقص – بل الأحاديث كثيرة في إثبات هذه الصفات ، وتلقاها العلماء بالقبول والتصديق والإيمان .
? والصفات السلبية : هي ما نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عنها في الكتاب ، أو على لسان نبيه ? ، كالموت ، أو النسيان ، أو العجز ، أو الجهل .

وصفة النسيان في حق المخلوق صفة نقص وعيب تدل على قصوره ، وحدود قوته ، فكيف إذا وصف بها الخالق ؟؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! ولذلك نزه الله نفسه عن هذه الصفة ، فقال : { وما كان ربك نسيا } { مريم :64 } . وقال : { قل علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } { طه : 52 } فلما يرد في الشرع نفي صفة من الصفات عن الرب عز وجل – خصوصاً إذا عُلم أنها صفة نقص وقصور – ثم تُذكر في موضع آخر من الكتاب أو السنة مضافة إلى الله عز وجل يعلم بذلك أن المراد بهذه النسبة إحدى معاني الصفة التي لا تدل على النقص إذا أضيفت إلى الرب تعالى . والنسيان يأتي بمعنى الترك ، فيكون معنى الآية أن الله عز وجل يتركهم في العذاب ، وهذا من تمام عدله وكماله عز وجل .


( ***** الخامس ********)

نفي التأويل – الذي ادَّعاه السقاف - عن الإمام مالك – رحمه الله -

وادعى السقاف - زوراً وبهتاناً – أن الإمام مالك قد أوَّل صفة النزول ، بنزول الأمر . فقال : ( روى الحافظ ابن عبد البر في (( التمهيد ))(7/143) ، وذكر الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء ))(8/105) أن الإمام مالكاً رحمه الله تعالى ، أوَّل النزول الوراد في الحديث بنزول أمره سبحانه وهذا نص الكلام من ((السير)) : قال ابن عدي : حدثنا محمد بن هارون بن حسان ، حدثنا صالح بن أيوب ، حدثنا حبيب بن أبي حبيب ، حدثني مالك ، قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى : أمره ، فأما هو فدائم لا يزول )) . قال صالح ، فذكرت ذلك ليحيى بن بكير ، فقال : حسن والله ، ولم أسمعه من مالك . قلت – ( القائل هو السقاف ) - : ورواية ابن عبد البر من طريق أخرى فتنبه ) .

 قلت : هذا والله عين التبجح بنسبة الأقوال إلى العلماء بالأسانيد الساقطة ، والتدليس بأن ثمة طريقاً آخر يعضد طريق ابن عدي . وإليك تفصيل الكلام على هذه الطرق – الواهية – التي اعتمدها السقاف ليثبت ما ادعاه من نسبة التأويل إلى الإمام مالك – رحمه الله -.

 { الكلام على طريق ابن عدي } : أما طريق ابن عدي : ففيه حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك ، قال أحمد : (( ليس بثقة ، . . كان يكذب )) وأثنى عليه شراً وسوءاً ، وقال أبو داود : (( كان من أكذب الناس )) ، وقال أبو حاتم : (( متروك الحديث ، روى عن ابن أخي الزهري أحاديث موضوعة )) ، وقال الأزدى : (( متروك الحديث )) ، وقال أبو داود في رواية : ((يضع الحديث )) ، وقال النسائي : (( متروك الحديث ، أحاديثه كلها موضوعة عن مالك )) ، وتكلم فيه ابن معين والحاكم . وصالح بن أيوب هذا مجهول . والغريب أن السقاف نقل هذا الخبر من (( السير )) ، ولم ينقل ما علقه الذهبي عليه أداءً للأمانة . قال الذهبي – رحمه الله – بعد إيراده هذا الخبر : (( قلت : لا أعرف صالحاً ، وحبيب مشهور ، والمحفوظ عن مالك – رحمه الله – رواية الوليد بن مسلم أنه سأله عن أحاديث الصفات ، فقال أمروها كما جاءت بلا تفسير ، فيكون للإمام في ذلك قولان إن صحت رواية حبيب )) .

 قلت : لم تصح رواية حبيب ، فهو تالف الحال كما ذكرنا آنفاً . ولعله يُروى عن حبيب نفسه ، وليس هو بحجة ، فقد قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (7/143) : (( وروى ذلك عن حبيب كاتب مالك ، وغيره )) ، فلم ينسبه لمالك ، فيكون صالح بن أيوب قد رواه على التوهم فنسبه لمالك ، ولا إخاله يثبت عن حبيب نفسه ، فصالح مجهول كما سبق ذكره .

 { الكلام على الطريق المعضد !!}: وأما الطريق الآخر الذي ذكره السقاف – وكأنه يعضضد الطريق الأول !! – فأورده ابن عبد البر في (( التمهيد ))(7/143) وقال : (( وقد روى محمد بن علي الجبلي – وكان من ثقات المسلمين بالقيروان – قال : حدثنا جامع بن سوادة بمصر ، قال : حدثنا مطرف ، عن مالك بن أنس ، أنه سئل عن الحديث : (( إن الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا )) فقال مالك : يتنزل أمره .

 قلت: وهذا سند ساقط ، فيه جامع بن سوادة ، ترجمه الذهبي في ((الميزان))(1/387) فقال : (( وعن آدم بن أبي إياس بخبر باطل في الجمع بين الزوجين ، وكأنه آفته )) . وأما محمد بن علي الجبلي ، فلعله الذي ترجمه الخطيب في (( تاريخه )) (3/101) ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، ولكن قال : (( علقت منه مقطعات من شعره ، وقيل إنه كان رافضياً شديد الرفض )) . فهذان هما طريقا هذا الأثر ، الأول : موضوع ، والثاني : رواية متهم ، فأنى يكون لهذا الخبر ثبوت ؟!! .


( ***** السادس ********)

الجواب عما نسبه السقاف إلى الإمام أحمد - رحمه الله – من التأويل

وقد نسب السقاف التأويل – أيضاً – إلى الإمام أحمد في أربعة مواضع :

قال : ( روى الحافظ البيهقي في كتابه (( مناقب الإمام أحمد )) – وهو كتاب مخطوط – ومنه نقل الحافظ ابن كثير في (( البداية والنهاية )) (1/327) ، فقال : (( روى البيهقي عن الحاكم ، عن أبي عمرو بن السماك ، عن حنبل ، أن أحمد ابن حنبل تأول قوله تعالى : { وجاء ربك } أنه جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي ، وهذا إسناد لا غبار عليه )) انتهى كلام ابن كثير . وقال ابن كثير أيضاً في (( البداية )) (10/327) : (( وكلامه – أحمد – في نفي التشبيه ، وترك الخوض في الكلام ، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي ? وعن أصحابه )) اهـ.

قلت :ومثل هذا لا يصح عن الإمام أحمد ، وإن ورد عنه بإسناد رجاله ثقات ، من وجهين :

? أولهما : أن روايه عنه هو حنبل بن إسحاق ، وهو وإن كان ثقة ، ومن تلاميذ الإمام أحمد – وابن عمه – إلا أنه يغرب ويتفرد عنه ببعض المسائل . قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – في (( السير ))(3/52) : (( له مسائل كثيرة عن أحمد ، ويتفرد ، ويغرب )) . ونقل العليمى في (( المنهج الأحمد ))(1/245) عن أبي بكر الخلال قوله : (( قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية ، وأغرب بشيء يسير ، وإذا نظرت في مسائله شبهتها في حسنها وإشباعها وجودتها بمسائل الأثرم )) . قلت : فإن صح هذا الخبر عن حنبل ، فيكون قد أغرب به على أبي عبد الله – رحمه الله – فإن المحفوظ عنه إمرار النص على وجهه ، والتصديق ، وعدم التأويل (4) .

ثم وقفت بعد ذلك على كلام لابن رجب الحنبلي في شرحه على البخاري المسمى بـ((فتح الباري)) في دفع هذه النسبة ، فقال – رحمه الله – (9/279) في معرض الكلام على حديث النزول : (( ومنهم من يقول : هو إقبال الله على عباده ، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم . ولكن يردُّ ذلك : تخصيصه بالسماء الدنيا ، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات ، وقد مال إليه في حديث النزول – خاصة – طائفة من أهل الحديث ، منهم : ابن قتيبة ، والخطابي ، وابن عبد البر ، وقد تقدَّم عن مالك ، وفي صحته عنه نظر ، وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا ، وخرجوا عن أحمد من رواية حنبل عنه في قوله تعالى : { وجاء ربك } أن المراد : وجاء أمر ربك . وقال ابن حامد : رأيت بعض أصحابنا حكى عن أبي عبدالله الإتيان ، أنه قال : تأتي قدرته ، قال : وهذا على حدَّ التوهم من قائله ، وخطأ في إضافته إليه )) .
حتى قال : (( والفرقة الثالثة : أطلقت النزول كما ورد ، ولم تتعد ماورد ، ونفت الكيفية عنه ، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق . وهذا قول أئمة السلف : حماد بن زيد ، وأحمد ، فإن حماد بن زيد سئل عن النزول فقال :هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء . وقال حنبل : قلت لأبي عبدالله : ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا ؟ قال : نعم ، قلت: نزوله بعلمه أو بماذا ؟ قال لي : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ، أتقن الحديث على ما روي بلا كيف ولا حدٍّ ، إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب ، فقال الله عز وجل: {فلا تضربوا لله الأمثال} { النحل :74} ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته ، أحاط بكل شيء علماً ، لا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هارب )) .

 ثانيهما : أن هذه الرواية الأخيرة تدل على مذهب الإمام أحمد في حديث النزول ، وهي موافقة لسائر الروايات عنه في ذلك ، مما يدل على أن الرواية الأولى من المفاريد والغرائب عنه ، فهي غير مقبولة . ثم إن هذا الخبر من زيادات إحدى نسخ البداية والنهاية ، وهي النسخة المصرية ، وباقي النسخ لم يرد فيها هذا الخبر ، فثبوته محل نظر .

 ومما ينبغي التنبيه عليه هنا : أن السقاف أورد كلام ابن كثير الأخير مورد الاستدلال على المخالف بأن أحمد نفى التشبيه ، يقصد بذلك صفات اليد ، والضحك ، والوجه ، والساق . وهذا فهم خاطئ ، وإنما التشبيه المقصود به هنا أن يقول : وجه كوجه ، أويد كيد ، أو ساق كساق . . وهكذا . قال الإمام الترمذي – رحمه الله – في (( جامعه ))(3/50) : (( قد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه : اليد ، والسمع ، والبصر ، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم ، وقالوا : إن الله لم يخلق آدم بيده ، وقالوا : إن معنى اليد هاهنا القوة . وقال إسحاق بن إبراهيم – ( وهو ابن راهويه ) - : إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد ، أو مثل يد ، أو سمع كسمع ، أو مثل سمع ، فإذا قال : سمع كسمع ، أو مثل سمع فهذا هو التشبيه . وأما إذا قال كما قال الله تعالى : يد وسمع وبصر ، ولا يقول كيف ، ولا يقول مثل سمع ، ولا كسمع ، هذا لا يكون تشبيهاً ، وهو كما قال الله تعالى في كتابه : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . ))

 قلت : ونمثل للسقاف هنا بصفة الحلم . فإن الله عز وجل وصف نبيه إبراهيم بهذه الصفة فقال : { إن إبراهيم لأواه حليم } { التوبة : 114 } وقال : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } {هود :75 } . ووصف سبحانه وتعالى نفسه بنفس الصفة فقال : { والله شكور حليم } { التغابن :17 } { وإن الله لعليم حليم } { الحج : 59 } {إنه كان حليماً غفوراً } {الإسراء : 44 } ولكن اختلفت كيفية الصفة في ذلك ، ولا أظن أن السقاف يقول بأن حلم الله كحلم إبراهيم – والعياذ بالله – وإلا لكان هو المشبه .

وقال السقاف : ( تأويل آخر للإمام أحمد : قال الحافظ ابن كثير أيضاً في (( البداية والنهاية ))(10/327) : (( ومن طريق أبي الحسن الميموني ، عن أحمد بن حنبل أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى :{ وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون } قال : يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث ، لا الذكر نفسه هو المحدث ، وعن حنبل ، عن أحمد أنه قال : يحتمل أن يكون ذكراً آخر غير القرآن )).اهـ . قلت – ( القائل هو السقاف ) -: وهذا تأويل محض ، ظاهر ، واضح ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره ، وعدم إرادته حقيقة ظاهره ) .

 قلت : لا يصفو له هذا القول أيضاً في إثبات التأويل عن الإمام أحمد – رحمه الله – والجواب عنه من وجوده :
? الأول : أن الخبر قد أورده ابن كثير معلقاً ، ولم يورده بإسناده حتى نحكم عليه بالثبوت أو البطلان !!
? الثاني : أن هذا الخبر من زيادات إحدى نسخ (( البداية والنهاية )) – كسابقه – فهو محل نظر ، فكتاب البيهقي (( مناقب أحمد )) ، غير موجود بين أيدينا مطبوعاً حتى نحكم إذا ما كان هذا الخبر فيه حقاً ، أم أن بعض المعطلة قد زاد هذه الزيادات في نسخة البداية والنهاية .
? الثالث : أن هذا الخبر قد أورده الذهبي في (( السير ))(11/245) بسياق آخر يدل على أن الإمام أحمد لم يؤول النص ، بل فسره بنص آخر من القرآن . قال الذهبي – رحمه الله -: (( . . فقال بعضهم : { يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ، أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟ فقلت : - ( القائل : هو الإمام أحمد ) - : قال الله : { ص *والقرآن ذي الذكر } ، فالذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولام )) . فهذا النص يوضح مقصد الإمام أحمد (( يحتمل أن يكون ذكراً آخر )) ، فإن القرآن لا يطلق عليه ( ذكر ) بغير ألف ولام في القرآن . . ، فكأنه قصد هنا سنة رسول الله ? ، بل هو ما قصده . وقد خشى السقاف أن تنكشف حيلته ، فحذف الشطر الأخير من الخبر ، وهو : (( يحتمل أن يكون ذكراً آخر غير القرآن ، وهو ذكر رسول الله ? )) .

فدل ذلك دلالة واضحة على أن الإمام أحمد – رحمه الله – لم يتأول النص بما يخرجه عن ظاهره كما ادعى السقاف ، بل فسره بالقرآن ، فرد المتشابه إلى المحكم .

ثم قال السقاف : (تأويل آخر عن الإمام أحمد : قال الحافظ الذهبي في (( سير أعلام النبلاء ))(10/578) : (( قال أبو الحسن عبد الملك الميموني : قال رجل لأبي عبدالله – أحمد بن حنبل:- ذهبت إلى خلف البزار أعظه ، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص ، عن عبدالله بن مسعود ، قال : ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي .. وذكر الحديث . فقال أبو عبدالله – أحمد بن حنبل -: ما كان ينبغي أن يحدث بهذا في هذه الأيام – يريد زمن المحنة – والمتن : (( ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي )) . وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة : إن الخلق واقع هاهنا على السماء والأرض وهذه الأشياء ، لا على القرآن ) .

 قلت : هذا النقل دليل على جهل السقاف ، وقلة بضاعته في العلم ، أو تجاهله وتدليسه لإثبات مذهبه الردىء . فالتأويل يأتي بمعنيين :
الأول : الحقيقة التي يؤول إليها الكلام .
والثاني: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به.
والتأويل بالمعنى الثاني هو المذموم الذي عليه كثير من المتأخرين والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم ، وهو الذي يحاول السقاف إثباته على الإمام أحمد .

والتأويل بالمعنى الأول هو التفسير وهو الذي سار عليه الإمام أحمد مع هذا النص فحقيقة الكلام تؤول إلى أن الله عز وجل لم يخلق شيئاً أعظم من آية الكرسي من كلام الله ، وكلام الله غير مخلوق – وليس كما يدعي السقاف – أن حقيقة الكلام تؤول إلى أن آية الكرسي مخلوقة والعياذ بالله – فصرف الإمام أحمد الكلام عن هذا الوجه فقال بأن الخلق لم يقع عليها . وهذا التفسير الذي ذكرناه للحديث هو ما ذهب إليه ابن عيينة – رحمه الله - . قال الترمذي في (( جامعه ))(2884) : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة – في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي – قال سفيان : لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله ، من السماء والأرض . وسنده صحيح .

وبهذا يُعلم أن ما ذهب إليه أحمد – رحمه الله – هو ما يدل عليه ظاهر النص ، وليس وجهاً مرجوحاً متأولاً – بالمعنى الثاني للتأويل - .

وأخيراً قال هذا السقاف : ( تأويل آخر عن الإمام أحمد يتعلق بمسألة الصفات : روى الخلال بسنده ، عن حنبل ، عن عمه الإمام أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول : احتجوا على يوم المناظرة ، فقالوا : (( تجيء يوم القيامة سورة البقرة … )) الحديث . قال : فقلت لهم : إنما هو الثواب . فتأمل في هذا التأويل الصريح ) . وقال في (( الحاشية )) : ( وقد نقل هذا لنا عن الخلال المحدث الإمام محمد زاهد الكوثرى رحمه الله تعالى في تعليقه على (( دفع شبه التشبيه )).

 قلت : إسناده لا نعرفه عن حنبل حتى نثبته من قول الإمام أحمد ، ولو صح عنه فليس بتأويل ، إنما فسر هذا الحديث على النحو لرواية أخرى للحديث ورد فيها ما يدل على أن الذي يجيء يوم القيامة هو الثواب . وهذه الرواية هي حديث نواس بن سمعان مرفوعاً : (( يأتي القرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران … الحديث )). قال الإمام الترمذي في (( الجامع ))(5/148) : (( ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم هذا الحديث أو ما يشبه من هذه الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن . وفي حديث النواس عن النبي ? ما يدل على ما فسروا ، إذ قال النبي ? : وأهله الذين يعملون به في الدنيا ، ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل )) . قلت : وحديث النواس هذا صحيح مخرج عند مسلم والترمذي . فتأملوا تلبيس هذا السقاف !! وقد نسب السقاف التأويل إلى الإمام البخاري والنضر بن شميل وغيرهما ، وسوف يأتي الجواب عن ذلك عند الكلام على إثبات صفة الضحك ، والاستواء للرب تعالى .


(******* السابع **********)

تصريح السقاف بمخالفته للأشعري وموافقته لأهل الاعتزال والرد عليه في ادعائه أن كتاب (( الإبانة )) من أول كتب الأشعري

والعجيب حقاً من أمر هذا السقاف أنه دائماً يهتف في كتبه عديمة النفع ، كثيرة الضرر ، بأن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة ، ثم يأتي ليوافق المعتزلة بعد ذلك ، ويخالف الأشعري – إمام مذهبه في الأصول - .

قال في حاشيته على كتاب ابن الجوزي – بعد أن ذكر كلام الأشعري في الإستواء من كتاب (( الإبانة ))-: ( أما رد الإمام أبي الحسن الأشعري تفسير الاستواء بالاستيلاء فنحن لا نوافقه في ذلك أبداً ، ونقول إنه قال ذلك بسبب ردة فعل حصلت عنده من المعتزلة ، وهم وإن لم نوافقهم في كثير من مسائلهم إلا أننا هنا نوافقهم ونعتقد أنهم مصيبون في هذه المسألة ) . وقال : ( وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري يقوده بغضه للمعتزلة ، وإرادته لمعاندتهم أن ينكر أن معنى الاستواء : الاستيلاء ، لأن المعتزلة تقول به ، مع أنه قال معناه ، وقولهم في تأويله صحيح لا غبار عليه ، فتأملوا ) .

 أقول : بل تأملوا أنتم أيها القراء هذا التناقض العجيب في اعتقاد هذا الرجل ، الذي أبان لنا جانب من جوانب معتقده ، وهو مرافقته لأهل الاعتزال ، فكيف تنسب نفسك بعد ذلك إلى الأشعري الذي يصرح في (( الإبانة )) وفي (( رسالة إلى أهل الثغر )) بإثبات الصفات على الوجه المذكور في النصوص الشرعية التي تأولتها أنت – والمعلوم أنه قد صنف هذه الكتب بعد رجوعه عن الاعتزال وتوبته منه ، فعلى هذا أنت أشعري على المذهب القديم للأشعرى وهو الاعتزال !! . وأما ادعاؤك أن (( الإبانة )) كان من أوائل ما صنف الأشعري ، فمجرد دعوى لا دليل عليها .

وقد ثبت لنا بالنص الصريح أن الإبانة قد صنفه الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال . ففي ترجمة شيخ الحنابلة أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهارى – رحمه الله – من (( سير أعلام النبلاء))(15/90) : (( فقيل : إن الأشعري لما قدم بغداد جاء إلى أبي محمد البربهارى ، فجعل يقول : رددت على الجبائى ، رددت على المجوس ، وعلى النصارى ، فقال أبو محمد : لا أدري ما تقول ، ولا نعرف إلا ما قاله الإمام أحمد فخرج ، وصنّف الإبانة فلم يقبل منه )) . فهذه الحادثة دالة على أنه صنف هذا الكتاب بعد رجوعه عن الاعتزال ولم يكن هذا في بداية عمره وأول طلبه كما ادعى السقاف . ولذلك قال ابن العماد في الذرات (2/303) : (( قال في كتاب (( الإبانة في أصول الديانة )) وهو آخر كتاب صنفه ، وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه )) . وهناك دلائل أخرى تجدها مذكورة في بعض فصول هذا الكتاب .


(******* الثامن *********)

طعنه في كتب أئمة أهل السنة والجماعة أمثال : عبدالله بن أحمد بن حنبل ، والخلال ، واللالكائي . . وغيرهم لمخالفتها مذهبه العقدي المبتدع

وقد دأب السقاف على الطعن في كتب السنة التي اتبع فيها مصنفوها الطريقة الحديثية في إثبات مسائل العقيدة من رواية الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة والأخبار المقطوعة الواردة في كل باب من أبواب العقيدة ، وهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات مسائل العقيدة ، إذ اعتمادهم في ذلك على الكتاب والسنة لا تحكيم الأهواء والعقول ، كما يفعل السقاف ، ومن على طريقته .

قال في مقدمته على كتاب ابن الجوزي (( دفع شبه التشبيه )) : ( جميع الكتب التي أطلق عليها كتب (( السنة )) .. هي في الحقيقة مليئة بالأحاديث الموضوعة والتالفة والمنكرة والضعيفة ، وما أشبه ذلك ، ومنها :
1 – كتاب (( السنة )) المنسوب لابن أحمد والذي في سنده : الخضر بن المثنى وهو : مجهول .
2 – كتاب السنة للخلال .
3 – السنة للالكائي ، و (( اعتقاد أهل السنة )) له أيضاً .
4 – كتب عثمان بن سعيد الدارمى التي منها : (( الرد على بشر المريسي )) .
5 – الإبانة لا بن بطة الوضاع ، كما في كتابنا (( إلقام الحجر )) .
6 – إبطال التأويل لأبي يعلى المجسم .
7 – التوحيد لابن خزيمة الذي ندم على تصنيفه كما روى عنه ذلك الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) .
8 – كتاب (( الصفات )) و كتاب (( الرؤية )) المنسوبين غلطاً للدار قطنى .
9 – (( الإيمان )) لا بن منده .
10-   (( شرح العقيدة الطحاوية )) لابن أبي العز ، وقد بينا ما فيها في عدة كتب من كتبنا أهمها : (( التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد )) و (( التنديد بمن عدد التوحيد )) فافرأهما فإن فيهما كشف تلك الأخطاء الجسيمة التي في (( شرح العقيدة الطحاوية )) .
11-   كتب ابن تيمية ، فإن جميعها لا يخلو من التشبيه .
12-   كتب ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية .
13-   كتاب (( العلو )) الذي بينا أنه صنفه في أول حياته ثم تبين له خطأ ما قاله فرجع عنه في كتبه الأخرى .
14-   كل كتاب في العقيدة على نسق عقيدة هؤلاء ، وغالب ما فيها يدور حول ما أبطلناه في مقدمة هذا الكتاب والتعليق عليه ) .

 قلت : وهذا الكلام عليه اعتراضات من وجوه :
? أولها : أن كثيراً من الأحاديث الواردة في هذه الكتب إن كانت ضعيفة الإسناد من طريق مصنفيها ، فهي صحيحة من طرق أخرى غير طرق مصنفيها .
? ثانيها : أن كثيراً من الأحاديث التي احتج بها أصحاب هذه الكتب على مسائل المعتقد مروية في (( الصحيحين )) ، إلا أن السقاف يحكم بالشذوذ على كل ما كان في (( الصحيحين )) مما ورد في إثبات صفات الرب عز وجل كاليدين ، والوجه ، والساق ، والضحك فاحتجاج أصحاب هذه الكتب بهذه الروايات الصحيحة على إثبات صفات الرب مقدم عندنا على كلام من غرق في بحور الكلام والعقلانيات ، ورد النصوص الشرعية لهواه المفرط ، ولشدة ابتداعه .
? ثالثها : أنه نفي صحة كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ، مع أنه صحيح النسبة إليه كما سوف نبينه قريباً .
والداعي عنده إلى ذلك ، أنه من أصح الكتب في مذهب الإمام أحمد في مسائل الاعتقاد ، لاسيما في باب الأسماء والصفات ، وعامة ما روي فيه عن أحمد – رحمه الله – مما يخالف اعتقاده ، ولذا فقد سعى إلى التشكيك في صحته ، بل ونفيها بالكذب والتلفيق ، ولكن كما قال تعالى : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } {الأنفال :30}
? رابعها : أن الكتب التي ذمها السقاف أكثر مصنفوها من إيراد الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لإثبات ما بوبوه من أبواب العلم والاعتقاد ، فما وجه ذم كتب هذه صفتها ؟!! . وقد أثنى أهل العلم على هذه المصنفات .

? فكتاب السنة للخلال : أثنى عليه الذهبي في (( السير ))(11/291) ، فقال : ((ومن نظر في((كتاب السنة))لأبي بكر الخلال رأى فيه علماً غزيراً ونفعاً كثيراً)) . وقال : ( 14/298) : (( وألف كتاب (( السنة )) وألفاظ أحمد والدليل على ذلك من الأحاديث في ثلاثة مجلدات تدل على إمامته وسعة علمه ، ولم يكن قبله للإمام مذهب مستقل ، حتى تتبع هو نصوص أحمد ، ودونها وبرهنها بعد الثلاث مائة )) .

? وكتاب (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة )) للالكائي : فيدل على جلالته كثرة نقل أهل العلم عنه في مصنفاتهم ، كالحافظ ابن حجر والسيوطى - وهما أشعريان – وقبلهما ابن الجوزي – وهو أشعرى أيضاً - ، وابن أبي شامة ، وغيرهم .

? وأما كتاب (( الرد على بشر المريسى )) لعثمان بن سعيد الدرامى . فإنه رد فيه على من قال بخلق القرآن ، فكيف يذم كتاباً هذا موضوعه ، والتزام السنة في المسألة صفته . ومثلها باقي الكتب التي ذكرها . وكل يؤخذ من قوله ويرد ، ولا نقول في الله إلا ما أثبته لنفسه ، أو أثبته على لسان نبيه ? ، ولا نحكّم العقول ، ونجعلها ، أداة لرد النصوص من الكتاب والسنة التي لا توافق الهوى أو المذهب .

وظنى أن هذا السلف قد حذر من هذه الكتب لأنها حوت مادل على العقيدة السليمة من نصوص شرعية وأقوال السلف بالسند ، فإن السند إذا صح ، ثبت القول بما ورد فيه ، ومثل هذا يخالف ما يذهب إليه المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية ، ومنهم السقاف . وسوف يأتي الرد على ما ادعاه السقاف من أن كتاب ((العلو)) للذهبي من أول ما صنفه وأنه رجع عنه في مصنفاته ، ومثله كتاب ابن خزيمة في باب (( إثبات صفة العلو للرب تعالى )) .


(*********** التاسع ************)

تلفيق السقاف إسناداً مزوراً لكتاب السنة لعبد الله بن أحمد للتشكيك في صحة نسبته

قال : (كتاب السنة المنسوب لابن أحمد ، والذي في سنده الخضر بن المثنى وهو المجهول ) .
 قلت : إسناد كتاب السنة ليس فيه الخضر بن المثنى ، وإنما (( كتاب الرد على الجهمية )) هو الذي في سنده الخضر بن المثنى .
 وأما إسناد كتاب (( السنة )) لعبد الله بن الإمام أحمد : أنبأنا الأشياخ : محمد بن أحمد بن عمر القطيعى ، وعمر بن كرم بن أبي الحسن الدينورى ، وأبو نصر بن أبي الحسن بن قنيدة ، وعبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران الداهرى ، وغيرهم ، قالوا : أنبأنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروى الصوفي ، قال : أخبرنا الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري من كتابه أخبرنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن القراب كتابة ، أخبرنا أبو النصر محمد بن الحسن بن سليمان السمسار ، وحدثنا أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن خالد الهروى ، حدثنا أبو عبدالله أبو عبد الرحمن عبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل . وقد توسع أخونا الفاضل الشيخ أخونا الفاضل الشيخ محمد بن سعيد القحطاني في ذكر أدلة إثبات نسبة هذا الكتاب إلى مصنفه ، وأما إسناد (( الرد على الجهمية )) فقد رواه أبو بكر غلام الخلال ، عن الخلال ، عن الخضر بن المثنى ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه .فلا أدري كيف أدعى السقاف أن في سند كتاب (( السنة )) لعبد الله بن أحمد خضر بن المثنى هذا ، هل سبب ذلك جهلة وتسرعه ، أم محض كذبه لترويج بدعه ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍! .


(********* العاشر *********)

الجواب عن حديث (( يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى )) . الذي احتج به السقاف على وجوب التأويل

قال السقاف في مقدمته على كتاب ابن الجوزي : ( ثبت في (( صحيح مسلم ))(4/1990برقم 2569 ) عن سيدنا رسول الله ? أن الله تعالى يقول . (( يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى ، قال : يارب كيف أدعوك وأنت رب العالمين ، قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده … الحديث . فهل يا قوم يجوز لنا أن نقول : نثبت لله صفة المرض ، ولكن ليس كمرضنا ؟‍‍‍!! وهل يجوز أن نعتقد أن العبد إذا مرض مرض الله تعالى أيضاً وكان عند المريض على ظاهره وحقيقته ) .

 قلت : المرض صفة نقص إذا لحقت بالمخلوق ، فكيف تلحق بالخالق سبحانه وتعالى ؟‍! وقد سبق وبينا عند الكلام على النسيان بأن الصفة إذا أضيفت إلى الرب عز وجل في موضع ، ونفيت عنه في موضع آخر – من الكتاب أو السنة – دلت على أن المراد من إضافة هذه الصفة إلى الرب أحد المعاني التي تدل عليها الصفة التي إذا نسبت إلى الرب جل وعلا لم تقدح ولم تكن صفة ذم ، وبينا أن الترك معنى من معاني النسيان وهو الذي دل عليه قوله تعالى : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } .

قال ابن منظور في (( لسان العرب ))(6/4416) : (( وقوله عز وجل : { نسوا الله فنسيهم } قال ثعلب : لا ينسى الله عز وجل ، إنما معناه تركوا الله فتركهم ، فلما كان النسيان ضرباً من الترك وضعه موضعه )) . وأما إضافة المرض لله جل وعلا فلا يجوز لأن المرض من صفات النقص المنزه عنها الله سبحانه وتعالى ، والسلف ? لما فسروا المرض هنا فسروه بما فسره به الله سبحانه وتعالى وهو : ( مرض العبد ) ، ومثل هذا ليس فيه صرف للكلام عن ظاهره ، لأن ذلك تفسير الله سبحانه – وهو المتكلم بهذا الكلام – فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداءً ، وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولاً للترغيب والحث ، كقوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله }(5) .


(******* الحادي عشر *********)

خلط السقاف بين التفويض والتأويل وبين تفويض المعنى وتفويض الكيف ليثبت التأويل عند السلف الصالح !!

والعجيب من هذا السقاف استخفافه بالقراء الكرام ، بخلطه بين المصطلحات والإطلاقات ليثبت ما يدين به من ضرورة التأويل لصفات الرب عز وجل ، وقد ظهر هذا جلياً في مقدمته على (( دفع شبه التشبيه )) ، حيث قال : ( التفويض أيضاً كان مذهب السلف … ونصوص أئمة السلف في قولهم أمروها كما جاءت مع عدم الخوض في بيان معناها أكثر من أن تحصر ، من ذلك ما قاله الإمام الحافظ الترمذي في ((سننه ))(4/692): (( والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ، ثم قالوا : تُروى هذه الأحاديث ، ونؤمن بها ، ولا يقال : كيف ، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت : ويؤمن بها ، ولاتُفسر ، ولاتتوهم ، ولايُقال : كيف ، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه )) اهـ . قلت – القائل هو السقاف - : وقوله : ( لايُفسر ) هي نفس قول بعض أئمة السلف ( قراءتها تفسيرها ) ، وقوله : ( لاتتوهم ) معناه : يُصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله لخلقه ، مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى ، وأما الكيف فلا نحتاج إلى تفويضه لأن الكيف محال على الله تعالى كما قال الإمام مالك : ولا يقال كيف ، والكيف عنه مرفوع ).

 قلت : يظهر للقارئ الكريم من كلام السقاف أنه يحاول بشتى الطرق – محاولة المستميت – أن يثبت أن التأويل والتفويض من مذاهب السلف . ولذلك أتى بكلام الإمام الترمذي ، وهو كلام حسن رائق لاشوب فيه البتة ، وهو حقيقة مذهب السلف ، إلا أن السقاف المبتدع جاء ففسره كما يحب ، فنسب إلى السلف ما ليس من مذهبهم البتة . فقال : ( قوله : (لاتتوهم ) معناه : يُصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله لخلقه، مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى ). وهذا ليس من مذهب أهل السنة والجماعة . وإنما معنى قولهم : ( لا تتوهم ): أي لا تتوهم أنها كصفات المخلوقين ، ففيها نفي الشبه بصفات المخلوقين ، لأنه سبحانه ليس كمثله شيء ، والسبب في ذلك أن معنى الصفة معروفة عندهم في لغة العرب ، فدفعوا التوهم في المشابهة في الكيفية . وهذا ولا شك بخلاف ما ذكره السقاف ، فإنه قد نفى المعنى أيضاً ، فهل يُعقل أنهم لم يكونوا يعرفون الفرق بين الوجه واليد ، والفرق بين الرحمة والسمع ، والفرق بين الاستواء والنزول ؟!!

من نسب إليهم ذلك فقد خاض غمار الجهل ، بل قد نسب نفسه إلى قول المعتزلة الملحدين . فهذا القول الذي بثه الخبيث من أنهم كانوا يفوضون المعنى يقتضى أنهم كانوا يثبتون للرب ما لا يعرفون معناه ، بل وهو يجر إلى قول آخر ، وهو إثبات الاسم دون الصفة ، كما ذهبت المعتزلة ، فهم يقولون : وهو سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر . وإنما كان مذهب السلف الصالح – رحمهم الله تعالى - : إجراء النصوص على ظاهرها ، ولا يقولون كيف هذا ، لأن الصفة ثابتة بنص الكتاب أو السنة أوكليهما ، وهم يعرفون معنى الصفة إذا أطلقت ، فيعرفون ماذا تعني كلمة وجه ، ويد ، واستواء ، ونزول ، وإلا لو كانوا لا يعرفونها من حيث المعنى لجل الله سبحانه وتعالى أن يخاطبهم بما لا يعلمون ، فإنه لما خاطبهم ، خاطبهم باللسان العربي – وهذا خلاف ما يعتقده السقاف !! – ومعاني هذه الصفات معروفة عندهم في اللسان العربي ، إلا أنها لما أضيفت إلى الله تعالى لم يتعرضوا إلى كيفيتها ، لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء .

وقد دل على ذلك دلالة قوية قول الإمام مالك – رحمه الله تعالى – لما سئل عن الاستواء ، فأجاب : (( الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ..)) . فنفى الكيف ، وأثبت المعنى ، ألا تراه قال : الاستواء غير مجهول ، أي معناه . ولكن السقاف قد حرّف هذا المفهوم ، فقال : ( الاستواء غير مجهول – أي أنه قد ذُكر في القرآن -..) .

 فأقول لهذا السخاف : وهل يذكر ربنا في القرآن ما لا يُعلم معناه ؟!! وهو القائل في محكم التنزيل : { لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } {النحل :103} . قال شيخنا العلامة المحدث عبدالله بن يوسف الجديع – حفظه الله – في كتابه ((العقيدة السلفية)) : (( السلف كانوا يعملون معاني الصفات ، ويفرقون بينها بحسب ما دلت عليه مما تعرفه العرب من لسانها ، فالعلم غير الحياة ، والإتيان غير الاستواء على العرش ، واليد غير الوجه ، وهكذا سائر الصفات . وفي هذا إبطال قول الملحدين في أسماء الله وصفاته في حكايتهم مذهب السلف : أنهم كانوا مفوّضة !! ، ويعنون بهذا أنهم لم يكونوا يعلمون معاني الصفات ، ولا التمييز بينها ، وأنها من المتشابه الذي يكلون العلم به إلى الله تعالى ، وهذا معنى قولهم ((أمروها إذا جاءت)) . وهذا القول من أفسد ما ينسب إلى السلف ، وهو من الكذب والبهتان والافتراء البيّن ، وذلك لأن الصفات إنما تُعرف بالوصوف ، فإذا كان السلف يجهلون معانيها فكيف كانوا أعلم من غيرهم بالله تعالى ؟! وبماذا عرفوه إذاً ؟! إن هذا لمن أسوأ ما يُظن بهم ن وهم خير هذه الأمة ، وفيهم أصحاب رسول الله ? الذين لم يقدر الله أحد مثلهم .

وإنما كان السلف أبعد الناس عن الخوض فيما لم يحيطوا به علماً مما أخبر الله تعالى عنه من الغيب ، فكما أنهم لم يكونوا يحيطون بذات الله عليماً ، لم يكونوا يحيطون بصفاته علماً ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، إلا أن صفاته كانت دليل المعرفة به ، ولا تصلح أن تكون كذلك وهي من المتشابه الذي ليس للعباد أن يعلموا حقيقته ، وإنما كانت معلومة المعاني عندهم ، مجهولة الكيف ، كما أن ذاته تعالى معلومة عندهم بصفاته ، مجهولة الكيف ، وهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت . بل تضمن قوله : (( نمرها كما مرت )) إثباتها على الحقيقة ، فإن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالعلم صفة على الحقيقة ، والقدرة صفة على الحقيقة ، واليد صفة على الحقيقة ، مع أن لكل صفة معنى غير الأخرى ، تعرف ذلك العرب من لغاتها )) .


(****** الثاني عشر *******)

إثبات أن كلام الله عز وجل بصوت والرد عليه في نفي ذلك

وقد صرح بمعتقده في هذه المسألة في مواطن عدة من كتبه ، نذكر منها ما ورد في كتابه (( إلقام الحجر للمتطاول على الأشاعرة من البشر )) ( ص 29 ) ، حيث قال – في معرض رده على عمر محمود صاحب كتاب (( الرد الأثري المفيد على البيجورى في شرح جوهرة التوحيد )) : - ( وأما ادعاؤه بأن كلام الله تعالى حروف وأصوات فادعاء باطل لا أساس له ، ولا دليل عليه ، وخصوصاً أنه نقل كلام ابن تيمية فقال : إن الله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف …. إلخ .

فنقول : أما قوله ( كما ثبت بالكتاب ) فليس صحيحاً ، فأين ذكرت لفظة ( صوت ) في القرآن صفة لله تعالى ، وأين في القرآن الآية التى فيها أن الله يتكلم بصوت ؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! . قال ا|لإمام البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ( 273 ) : ولم يثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل أهـ . وأما قوله : ( والسنة ) فجوابه : لم يثبت في السنة أن الله تعالى يتكلم بصوت البتة ، أو أن لله صوتاً بتاتاً … ) إلى أخر كلامه .

? قلت : بل الكلام بصوت ثابت لله تعالى بنص الكتاب والسنة :

? فأما ما دل على ذلك من الكتاب :
فقوله تعالى : { وأنا أخترتك فاستمع لما يوحى } { طه : 13 } . وقول الله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } { النساء : 164 } . وقوله تعالى : { منهم من كلم الله } { البقرة : 253 } . وقوله سبحانه وتعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب … } الآية { الشورى : 51 } . وقوله تعالى : { وإذ نادى ربك موسى } { الشعراء : 10 } . (( فدل هذا على أن سمع كلام الله تعالى ، ولا يسمع إلا الصوت ، وربنا تعالى قد خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه ، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت ))(1) .

? وأما ما دل على ذلك من السنة : فحديث عبدالله بن مسعود ? قال : إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوته أهل السماء ، فيخرون سجداً ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قال : سكن عن قلوبهم ، ونادى أهل السماء : ماذا قال ربكم ؟ قال : الحق ، قال : كذا ، وكذا . رواه عبدالله بن الإمام أحمد في السنة ( 536 ) بسند جيد . وفي رواية : (( إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا )) . أخرجه عبدالله في السنة ( 537 ) ، وابن خزيمة في التوحيد ( ص : 145 – 147 ) ، والدرامي في (( الرد على الجهمية )) ( ص : 91 ) . وسنده صحيح . ونقل عبدالله بن الإمام أحمد عن أبيه قوله : (( حديث ابن مسعود ? : إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت حجر السلسلة على الصفوان ، قال أبي : وهذا الجهمية تنكره )) . ومثله لا يقال بمجرد الرأى أو العقل ، فله على ذلك حكم الرفع ، كما قرر علماء الحديث ، بل وردت بعض روايات هذا الخبر مرفوعة ، إلا أنها شاذة ، فقد تفرد برفعها بلفظ مغاير عن العمش أبو معاوية الضرير محمد بن خازم ، عن النبي ? ، قال : (( إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا …. )) الحديث أخرجه أبو داود ( 4738 ) ، والآفة في هذا الخبر من أبي معاوية ، وإن كان رواه مرة على الجادة فوافق كل من رواه عن الأعمش موقوفاً باللفظ الأول ، فقد رواه – مرة أخرى – مرفوعاً ببغداد فيما ذكره عبدالله بن الإمام أحمد في (( السنة )) ( 1 / 282 ) ، وأبو معاوية وإن كان من اصحاب الأعمش إلا أنه يخطئ في أحاديث عنه ، بل قال عن نفسه : حفظت من الأعمش الفاً وست مائة فمرضت مرضة فذهب عني منها أربه مائة . وقال الإمام أحمد : (( يخطئ في أحاديث من أحاديث الأعمش )) . وقد خالف كل من رواه موقوفاً باللفظ الأول ، ولذا رجع البخاري الرواية فأخرجها تعليقاً في (( صحيحه )) ( 9 / 612 – اليونينية ) : (( وقال مسروق ، عن ابن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً ، فإذا فزع قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق )) .

? وقد أثبت الإمام أحمد الكلام بصوت لله عز وجل : فقال عبدالله بن الإمام أحمد – رحمهما الله – في السنة ( 533 ) : سألت أبي – رحمة الله – عن قوم يقولون : لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : ، بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت )) . وهذا الخبر رواه النجاد في (( الرد على من يقول القرآن مخلوق )) ( ق : 87 / ب ) عن عبدالله به .
? فدل هذا الخبر على أمرين :

أحدهما : إثبات معتقد الإمام أحمد في المسألة ، وانه يثبت الكلام بالصوت لله عز وجل ، وفي هذا رد على هذا السخاف فيما ذكره في ( ص 21 ) من كتابه المذكور حيث قال :
(( حاول الكاتب أن يرد قول أهل السنة والجماعة : أن الله تعالى متكلم ، وان كلامه ليس بحرف ولا صوت ولا لغة )) . فلا أدرى : هل يعتبر الإمام أحمد مبتدعأ ويخرجه من أهل السنة والجماعة بعد هذا النقل الصحيح عنه في بيان مذهبه في مسألة الصوت ؟! . وخصوصاً أنه منقول عنه بإسناد صحيح عند النجاد في كتابه (( الرد على من يقول القرآن مخلوق )) ، فالسقاف ينفي صحة نسبه كتاب (( السنة )) ‍‍!! . أم سوف يتأول هذا النص كما تأول صفات الرب سبحانه وتعالى ؟ !

ثانيهما : تصحيحه لهذه الأخبار الواردة في إثبات الصوت ، حيث قال : (( هذه الأحاديث نرويها كما جاءت )) ، فدل بذلك على أنه يثبت الصفة كما جاءت ولا يتاولها كما أدعى هذا الأفاك الأثيم . وقال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي – رئيس الحنابلة في عصره – المتوفي سنة 410هـ في كتابه (( اعتقاد الإمام احمد )) مخطوط – وهو مروي عنه بإسناد صحيح – ( ق : 52 / ب ) : ((وكان يقول – أي الإمام أحمد : - إن القرآن كيف يصرف غير مخلوق ، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف ، وكان يبطل الحكاية ويضل القائل بذلك )) . وفي هذا رد على ملا على القاري فيما نقله عنه السقاف في (( إلقام الحجر )) ( ص : 24 ) حيث قال : ( قال المحدث علي القاري في شرح الفقه الأكبر ( ص : 29 – 30 ) : ومبتدعه الحنابلة قالوا كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته ، وهو قديم ) . فهذا الذي بدع به بعض الحنابلة من إثبات الصوت واحرف منقول باسانيد صحيحة عن الإمام احمد – رحمه الله - .

وممن أثبت الصوت لله عز وجل الإمام البخاري رحمه الله كما سوف ياتي ذكره .

وأصرح من خبر ابن مسعود : حديث عبدالله بن انيس ? قال : سمعت النبي ? يقول : (( يحشر الله العباد – أو الناس – عراة غرلاً بهماً )) ، قلنا : ما بهماً ؟ قال : (( ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد – أحسبه قال : كما يسمعه من قرب – أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من اهل الجنة يدخل الجنة …..الحديث )) . وهذا الخبر قد أعله السقاف في كتابه إلقام الحجر ( ص : 29 – 31 ) . وفي كلامه على إعلال هذا الحديث ما يدل على جهله بهذه الصناعة ، وقلة باعه فيها ، وعدم تجريه لأقوال العلماء ، هذا إذا حسناً فيه الظن ، وإلا فهو متجاهل ملبس ، يدلس الأقوال ويبتر منها مالا يوافق رأيه ، ليثبت بدعه . وسوف نتكلم بشيء من التفصيل على طرق هذا الحديث إن شاء الله تعالى .


(************الجزء الثالث عشر************)

الكلام على حديث عبدالله بن أنس ? في كلام الرب تعالى بصوت وإثبات صحته

قد ورد هذا للحديث من طرق عن جابر بن عبدالله ، عن عبدالله بن انيس رضي الله عنهما .

? فأما الطريق الأول : فمن رواية القاسم بن عبد الواحد ، عن عبدالله بن محمد بن عقيل ، عن جابر به . أخرجه الإمام أحمد ( 3 / 1495 ) ، والبخاري في (( الأدب المفرد )) ( 999 ) ، والحاكم في (( المستدرك )) ( 4 / 574 ) ، والخطيب في (( الرحلة في طلب الحديث )) ( 31 ) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي . وقد أعله هذا السقاف بضعف القاسم بن عبدالواحد وعبدالله بن محمد بن عقيل فيما ادعاه . بل اشد من ذلك قوله : ( والكل يعرف أنه لا عبرة بتصحيح الحاكم في المستدرك خاصة ، ولا بإقرار الذهبي له هناك ، لأنه لم يحرره ما لم يطابق الواقع ، أو يوافق على ذلك الحفاظ ) .

قلت : وفي هذه العبارة تهوين من شأن الحافظ الذهبي – رحمه الله – وأما تحريفه لكلام العلماء في رواة هذا الإسناد فكثير ، من ذلك : قوله في القاسم بن عبدالواحد ( ص : 30 ) : ( قال عنه أبو حاتم : لا يحتج به كما في الحرج والتعديل بمعناه ( 7 / 114 )) . فاحتاط لنفسه بقوله : ( بمعناه ) لئلا يتعقب ، والذي في (( الجرح والتعديل )) . قال ابن أبي حاتم : (( سألته عنه ، فقال : يكتب حديثه ، قلت يحتج بحديثه ؟ قال : يحتج بحديث سفيان وشعبه )) . وشتان بين هذا النقل ، وبين ما حرفه ذلك المؤول من قول أبي حاتم ، فإن هذا الوصف مشعر بأنه عنده من أهل الصدق والعدالة ، بل إن هذا الوصف يدل على تشدد أبي حاتم ، إذ قال : (( يحتج بحديث سفيان وشعبه )) ، أي أن القاسم هذا لم يصل إلى درجة الحافظ المحتج بحديثه دون سبر كسفيان وشعبة ، وهذا لا يمنع من كونه ثقة محتجاً به عند غير أبي حاتم ، فلا شك أن هذا الراوى أعلى درجة ممن يقول فيه أبو حاتم : (( لا يحتج به )) . وقد أورده أبن حبان في (( الثقات )) ( 7 / 337 ) ، وذكره الحافظ الذهبي في (( الميزان )) ( 3 / 375 ) ، وقال : (( راوى حديث الصوت ، ولم ينكره عليه ، مع أنه ذكر له حديثاً عدة من مناكيره )) . وهو ما اخرجه النسائي في (( عشرة النساء )) ( 256 ) ، والذهبي في (( الميزان )) ( 3 / 375 ) من طريق : محمد بن محمد بن نافع ، حدثني القاسم بن عبدالواحد ، قال حدثني عمر بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : فخرت بمال أبي في الجاهلية ، وكان قد ألف ألف وقية ، فقال النبي ? : (( أسكتى يا عائشة ، فإنى كنت لك كأبي زرع لأم زرع )) . ثم نشأ رسول الله يحدث : (( إن إحدى عشرة امرأة اجتمعن في الجاهلية وذكر … الحديث بطوله )) . قال الذهبي – وقد وقع في روايته : (( وكان ألف ألف وقية )) : - (( قلت : ألف الثانية باطلة قطعاً ، فإن ذلك لا يتهيأ لسلطان العصر )) . قلت : إن كان هذا هو وجه النكارة في هذا الحديث ، فهو مردود بما فسرته رواية النسائي وبينته : (( قد ألف ألف وقية )) . فليست هناك ثمة ألف ثانية ، بل الظاهر أنها تصحفت على الذهبي ، فخففها والصواب أنها بلام مشددة . وإن كان وجه النكارة قوله : (( ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث : … الحديث )) – إذ المحفوظ أن الذي حدثت بهذا الحديث هي عائشة – فالأولى الحمل فيه على من هو دون القاسم بن عبد الواحد ، وهو محمد بن نافع ، فقد قال فيه الذهبي نفسه في (( الميزان )) ( 4/25) : (( لا يكاد يعرف )) . وقد تفرد بالرواية عنه عبد الملك الجدي ، فالحمل عليه أولى في رواية هذا الخبر . وبهذا يتضح لك القاسم بن عبد الواحد ثقة محتج به ، لا سيما وقد ثبت البخاري له هذا الحديث كما سوف يأتي ذكره .

وأما كلامه في عبد الله بن محمد بن عقيل ، فقال ( ص : 30) : ( وأما شيخه عبد الله بن محمد بن عقيل ، في تهذيب التهذيب ( 6/13) : قال يعقوب : صدوق ، وفي حديثه ضعف شديد جداً ، وكان ابن عيينة يقول : أربعة من قريش يترك حديثهم ، فذكره فيهم ، وذكر أنه تغير ، وقال الإمام أحمد : منكر الحديث ، وقال الدورى عن ابن معين : ابن عقيل لا يحتج حديثه ، وقال ابن المدينى : كان ضعيفاً، وقال النسائي : ضعيف ، وقال ابن خزيمة : لا أحتج به لسوء حفظه . أهـ مختصراً ، وفصل القول فيه الإمام الحافظ الذهب في سير أعلام النبلاء ( 6 / 205 ) ، فقال : قلت : لايرتقى خبره إلى درجة الصحة والاحتجاج ) .

? قلت : قد اهتم هذا المحرف بنقل كلام من جرح عبد الله بن محمد بن عقيل ، وضرب صفحاً عن ذكر أقوال من عدله واحتج به . ففي التهذيب : (( قال الترمذي : صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل ، قال محمد بن إسماعيل ، وهو مقارب الحديث )) .
? قلت فاحتج هؤلاء الأئمة بحديثه يدل على أن من ضعفه إنما ضعفه لعلة وردت عليه ، وهي تغيره ، وذلك نقل عن يحيى بن سعيد الوجهان في الرواية عنه . فقال ابن المدينى : (( وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه )) وقال عمرو بن على : (( سمعت يحيى وعبد الرحمن يحدثان عنه )) . وأما قول أحمد ك (( منكر الحديث )) فالإمام أحمد قد يطلق النكارة على ما تفرد به الثقة . وقد صرح ابن حجر العسقلاني في (( هدي الساري )) ، وفي (( فتح الباري )) في مواضع عدة بذلك عن الإمام أحمد (1) . وأما قول الذهبي : (( لا يرتقى خبره إلى درجة الصحة والاحتجاج )) . فليس معناه تضعيف حديثه ، وإنما غايته أن يكون حديثه من رتبة الحسن ولاشك أنه أدنى من الصحيح في الدرجة والاحتجاج . وإلى ذلك ذهب شيخ السقاف الغمارى في (( الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين )) ( ص : 180 ) .

? وإلى هذا المدعى الأثيم ، والمتشبع بما لم يعط نقول : لقد صحح هذا الحديث الإمام البخارى – رحمه الله – فأورده في (( صحيحه )) ( العلم / باب : الخروج في طلب العلم ) ( 1/25) معلقاً بصيغة الجزم ، قائلاً : (( ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد )) . (( وقال في خلق أفعال العباد )) ( ص:30 ) : (( وقال عبد الله بن أنيس رضي الله عنه : … )) فذكره تاماً . وقال ( ص : 149 ) : (( وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بُعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا )) فاستدلاله بهذا الحديث على إثبات الصوت لله عز وجل يدل على تصحيحه حديث عبد الله بن أنيس الوارد في ذلك.
ولا أظن أن السقاف لم يقف على كلام الإمام البخارى ذكره ، وكلام البخارى المشار إليه سابقاً موجود في نفس الكتاب قبل هذا الحديث مباشرة . لكن السقاف احتال لنفسه بحيلة أخرى لدفع الاحتجاج بتعليق البخارى – رحمه الله – لهذا الحديث بصيغة الجزم في (( صحيحه )) ، فذكر كلاماً لابن حجر يشيد في ظاهره ما ادعاه من ضعف هذا الحديث ك . فقال ( ص : 31 – 32 ) : ( مرض الحافظ ابن حجر الحديث من جهة ورود لفظة الصوت ، وجزم بأن البخارى مرضه أيضاً حي قل الحافظ ما نصه في (( الفتح )) ( 1 / 174 ) : (( نظر البخارى أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا ، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط حزم به ، بل مرضه ، لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل ، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ، ولو اعتضدت ومن هنا يظهر شفوف علمه – آي البخارى – ودقة نظره وحسن تصرفه رحمه الله تعالى )) .أ هـ كلام الحافظ من الفتح ) .

? قلت : وأين تعليق البخاري للحديث بصيغة الجزم في كتابه (( خلق أفعال العباد )) واحتجاجه بالرواية التي ذُكر فيها الصوت ، وقوله رحمه الله : (( وفي هذا دليل أن صوت الله لايشبه أصوات الخلق ، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب )) . فهذه العبارة الأخيرة ههي نفسها التي وردت في حديث عبدالله بن أنيس فكيف يقال بعد ذلك أنه مَرّضه تضعيفاً لهذا الحرف ؟!! ثم إن كلام ابن حجر – رحمه الله – فيه تضارب – فكيف يجزم بحسن إسناد الحديث عند كلامه على الارتحال ، ثم يطعن في الإسناد بقوله : ( فلا يكفى فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ) عند الكلام على الصوت ، مع أن شطري المتن وردا بنفس الأسانيد ؟!! . وعلى تقدير صحة ما ذهب إليه السقاف فكلام البخاري هذا أقل ما يدل عليه أنه يذهب إلى إثبات الصوت لله عز وجل . فهل تعد البخاري بذلك من أهل السنة والجماعة ، أم أنه خرج من دائرتهم إلى دائرة المبتدعة أو الزنادقة كما وصفه شيخ شيوخك ، الكوثرى المتهالك .

? أما الطريق الثاني :
فأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (156) ، وتمام الرازي في ((فوائده)) (928) من طريق : عثمان بن سعيد الصيداوي ، عن سليمان بن صالح – وعند تمام : سليم بن صالح – عبد الرحمن بن ثابت بن ثروان ، عن الحجاج بن دينار ، عن محمد بن المنكدر عن جابر به . قال الحافظ في الفتح (1/141) : (( إسناده صالح )) . وأما السقاف فرد حكم الحافظ عليه (ص :31) ، فقال : ( كيف يقبل – أي عمر محمود – هو وسادته قول الحافظ ابن حجر : وإسناده صالح هنا ، مع أن إسناده غير صالح لوجود المجاهيل في طريق الطبراني في مسند الشاميين ، وتمام ) . حتى قال : ( فعثمان الصيداوى الذي في سند الطبراني في مسند الشاميين وشيخه سليمان بن صالح مجهولان ، وشيخ الثاني : وهو عبد الرحمن بن ثابت : صدوق يخطئ رمى بالقدر تغير باخرة كما في التقريب ) .

 قلت : وهذا الكلام يُظهر جهله من وجهين :
الأول : قوله بجهالة عثمان الصيداوي وسليمان بن صالح ، فكأنه لم يقف لهما على تراجم . فأقول له : أما الأول : فترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج11/ق:99) فقال : (( عثمان بن سعيد بن محمد بن بشير أبو بكر الصفراوى ، من أهل صيدا ، الصيداوى ، من ساحل دمشق ، روى عن محمد بن شعيب وسليم بن صالح ، ومحمد بن عبدك الرازي . روى عنه : الحسن بن جرير الصورى ، ومحمد بن المعافى الصيداوي ، وأحمد بن بشر بن حبيب ، وأبو جعفر أحمد بن عمر بن أبان الصورى الأصم ، وأبو عبد الملك بن عبدوس الصورى . . . )) . وأما سليمان بن صالح فهو نفسه سليم بن صالح كما في رواية تمام ، وقد ذُكر في شيوخ الصيداوى باسم سليم ، وله ترجمة في تاريخ دمشق ولكن في الجزء المفقود منه. دل على ذلك أن ابن منظور أورد ترجمته في (( مختصر تاريخ دمشق ))(10/205) ، فقال : (( سليم بن صالح أبو سفيان العنسى سكن جبلة حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان . . الحديث )) . وأما قول الذهبي فيه في (( الميزان )) : (( لا يعرف )) فمتعقب بما ذكرناه ، فإن ترجمته في (( تاريخ دمشق )) ونسبته وموطن سكنه ترفع عنه جهالة العين . وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فمع ما فيه من اللين إلا أنه عند ابن حجر ممن يتابع على حديثه ، فهؤلاء الثلاثة ضعفهم محتمل ، فمن أجل ذلك وصف الحافظ هذا الإسناد بأنه صالح ، أي أنه يقوي سابقه – وهو طريق ابن عقيل - .
والوجه الثاني :أنه ذكر ضعف عبد الرحمن بن ثابت على سبيل القدح فيه ، لكي يغلط الحافظ ابن حجر في حكمه على إسناد الحديث من هذا الطريق ، فكأنه ظن أن حكمه على الإسناد بالصلاح يعنى أنه محتج به ، أو أنه مثل الحسن في الرتبة ، والصواب أنه يدل على ضعف الإسناد ، إلا أن هذا الضعف محتمل غير شديد . فتدبر وتأمل . وأما ما لمز به زهير الشاويش في حاشية كتابه ( ص : 35 ) حيث قال : ( تنبيه : قوله : رفيع غير فظيع لعله من تفسير ابن بشر ، فلم أره في شئ من طرق الحديث . أهـ . دال على أنه لا يعى – أي زهير – ما يقول ، إذ كان عليه أن يقول : وهذا قول باطل من رجل أجمعوا على أنه كذاب ) . فلا يصفو له : لأن هذا الحرف : (( رفيع غير فظيع )) ورد في رواية تمام من أصل الحديث ، وليس من تفسير أحد الرواة ، وهو حرف منكر .

? وأما الطريق الثالث :
فأخرجه الخطيب في (( الرحلة في طلب الحديث )) (928) من رواية عمر بن الصبح ، عن مقاتل بن حيان ، عن أبي الجارود العنسى ، عن جابر . قال الحافظ : (( في إسناده ضعف )) . قلت : بل إسناده تالف ، فعمر بن الصبح كذاب متهم بالوضع وأبو الجارود العنسى لم أقف على ترجمة له ، وليس هو الكوفى الأعمى – زياد بن المنذر – فالكوفى عامة روايته عن طبقة التابعين .

 فمما سبق يتضح لنا أن حديث عبد الله بن محمد بن عقيل حديث حسن لذاته ، ويقويه طريق الحجاج بن دينار . ومثل حديث عبد الله بن أنيس في الدلالة : حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال النبي ? : (( يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم ! فيقول لبيك ربنا وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ، قال : يارب ! وما بعث النار؟ قال من كل ألف – أراه قال : تسع مائة وتسعين – حينئذ تضع الحامل حملها ، وترى الناس سكارى ، وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )) . وهو حديث صحيح مخرّج في (( الصحيحين )).

وقد حاول السقاف رد هذا الدليل أيضاً ، فقال : ( قال الجاحظ في ((الفتح))(13/460) نافياً إثبات الصوت لله تعالى ، وعدم دلالة الحديث على ذلك : (( ووقع فينادى مضبوطاً للأكثر بكسر الدال ، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول ، ولا محذور في رواية الجمهور ، فإن قرينه قوله (إن الله يأمرك) تدل ظاهراً على أن المنادى ملك يأمره الله أن ينادي بذلك ))). قلت : وليس الأمر كما ادعى الحافظ ، فإن قوله ( إن الله يأمرك ) قد تحتمل الوجهين نعم ، ولكن وردت قرينة هنا تدل على أن المنادي هو الله وهي :-جواب آدم للنداء بقوله : (( يارب وما بعث النار؟ )) فإنه صريح الدلالة على أن المنادي هو الله ، وليس الملك ، إذ لو كان ملكاً ، لما أجابه آدم بقوله : (( يارب … )) ، ولا يصرف النص عن حقيقته إلا بصارف صحيح . وصنيع البخاري يدل على ما ذكرناه ، إذ أورد هذا الحديث في كتابه (( خلق أفعال العباد )) استدلالاً به على إثبات الصوت عقب إيراده حديث عبد الله بن أنيس في نفس الكتاب ( ص:150 رقم :464) .

وفيما ذكرناه كفاية في إثبات الصوت لله عز وجل وفي الرد على السقاف في نفيه ذلك ، ولولا خشية الإطالة لأوردنا أكثر ما روي في هذا الباب من الأخبار .


(**********الجزء الرابع عشر **********)

إثبات الكلام بحرف لله تعالى والرد على السقاف في نفيه ذلك

كما حاول السقاف أن ينفي الكلام بصوت عن صوت الله سبحانه وتعالى ، حاول أن ينفي عنه أيضاً الكلام بحرف ، فقال في كتابه (( إلقام الحجر للمتطاول على الأشاعرة من البشر )) – رداً على عمر محمود صاحب (( الرد الأثري المفيد على البيجورى في شرح جوهرة التوحيد )) - : ( حاول الكاتب أن يرد قول أهل السنة والجماعة : أن الله تعالى متكلم ، وأن كلامه ليس بحرف ولا صوت ولا لغة ، يعنون الصفة بذات المولى تبارك وتعالى ، وأن هذه الألفاظ والكتابة كلها صارت عبارات دالة على الكلام الأزلى ، وهو متعلق بعلم الله تعالى ، فلا يوصف بالحدوث كصفة العلم ) .

قلت : ويرد هنا عدة اعتراضات على كلامه هذا : الأول : أن نفي الكلام بحرف عن الرب عزّ وجل ليس قولاً لأهل السنة والجماعة كما ادعى السقاف ، وإنما هو قول الأشاعرة والماتريدية والكلابية ومن شابههم من أهل البدع . وأما أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم إمامهم الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السلف – رضوان الله عليهم – فيثبتون الكلام بحرف للمولى عزّ وجل . قال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمى – رئيس الحنابلة في عصره – في كتابه (( اعتقاد الإمام أحمد )) - مخطوط – (ق: 52/ب) : (( وكان يقول – أي الإمام أحمد - : إن القرآن كيف يصرف غير مخلوق ، وإن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف ، وكان يبطل الحكاية ويضلل القائل بذلك )). وصنَّف الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني كتاباً في إثبات الحرف ، والرد على من ينفيه ، سامه : (( الرد على من يقول : {ألم} حرف لينفي الألف واللام والميم عن كلام الله عز وجل ))(8) .

وأما أدلة إثبات الحرف لله تعالى ، فهي :
1 – حديث عبدالله بن عباس ? قال : بينما جبريل قاعد عند النبي ? سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : (( هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ، ولم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته )) .
أخرجه مسلم (1/554) ، والنسائي (2/138) من طريق : عمار بن رزيق ، عن عبد الله بن عيسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به .
2 – حديث عبدالله بن مسعود – ? - قال : (( تعلموا القرآن ، فإنه يُكتب بكل بحرف منه عشر حسنات ، ويكفر عن عشر سيئات ، أما إني لا أقول : { ألم } ولكن أقول : ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر )) .
أخرجه ابن أبي شيبة (6/118) بسند صحيح ، واختلف في وقفه ورفعه ، والأصح الوقف ، وله حكم الرفع .
3 – قول ابن عباس – ? - : (( ما يمنع أحدكم إذا رجع من سوقه ، أو حاجته ، إلى أهله ، أن يقرأ القرآن فيكون له بكل حرف عشر حسنات )) .
أخرجه ابن المبارك في (( الزهد ))(807) بسند جيد (9) .

وأما السقاف : فيذهب إلى القرآن الذي نقرؤه مخلوق ، وهو معبِّر عن كلام الله الأزلى . قال في كتابه (( إلقام الحجر )): (( أخبر المولى تبارك وتعالى الخلق أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه العبارات المخلوقة – { يقصد القرآن الكريم } - المعبرة عن كلامه الأزلى الأبدى الذي ليس بحرف ولا صوت ولا لغة ، كما أخبر أنهم عاجزون أن يخلقوا إنساناً بل بعوضه ….. وأن هذه الألفاظ المخلوقة باللغة العربية المنزلة على سيدنا رسول الله … ولو كانت قديمة لما كانت في كتاب حادث مخلوق ولما تصوّر مسها ولا كتابتها في اللوح المحفوظ الذي خلقه الله تعالى وأحدثه وأجرى القلم عليه بأشياء كثيرة ) .

قلت : هذا والله اعتقاد الجهمية ولكن بطريقة توهم القارئ بأنه مخالف له ، ولنا مع هذا الكلام وقفه . فإنه قد استدل على كون القرآن الذي نقرؤه ونحفظه ، ويسطر في المصاحف ، ويحفظه الصبيان في الكتاتيب مخلوق !! – والعياذ بالله – بأنه لو كان قديماً لم يسطر في كتاب حادث ، ولما تصور مس هذا الكتاب ، ولا كتابته في اللوح المحفوظ المخلوق ، وجوابنا عن هذا : بأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز بتكليمه لموسى ، فقال { وكلم الله موسى تكليماً } { النساء : 164 } وقال له : { فاستمع لما يوحى } { طه : 13 } . (( فدل هذا على أنه سمع كلام الله تعالى ، ولا يسمع إلا الصوت ، وربنا تعالى قد خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه ، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت ( 10 ) ، فهو كلام مسموع بالآذان وليس من قبيل الإلهامات . فهل سماع موسى عليه السلام بأذنه الحادثة المخلوقة يمنع منكون كلام اله الذي تكلم به إليه قديم غير حادث ؟! وقال تعالى لنبيه ? : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } {التوبة :6} . فوصف سبحانه وتعالى هذا القرآن الذي نتلوه بألسنتنا الحادثة ، وتحفظه قلوبنا المخلوقة بأنه كلام الله ، وأنه يا محمد إذا استجار بك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع بأذنه – وهي مخلوقة – كلام الله سبحانه وتعالى الُمنزل إليك – غير المخلوق - ، وإن كنا أثبتنا الكمال المطلق لله سبحانه ، فلا يعزب عن قدرته أن يُسمع موسى المخلوق باذنه الحادثة كلام الله سبحانه الذي هو صفة من صفاته غير المخلوق ، وإلا لو نفينا ذلك ، لتناقض الإثبات مع النفي .

ولكن السقاف تأول هذه الآية ، فقال : ( وأما معنى قوله تعالى { فأجره حتى يسمع كلام الله }أي اتل عليه هذه الألفاظ التي خلقتها وعلمتك إياها ، والتي تعبر عن كلامي الأزلى ، والتي لم يصنفها أحد واتي تقرؤها بفمك الحادث ، وتقرير ذلك في كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري – رحمه الله تعالى - ) .

 قلت : وهذا صرف لظاهر الكلام عن حقيقته ، وهو التأويل المذموم الذي ذمه السلف ، والذي نُهينا عنه ، ثم تناقض هنا فقال في أول كلامه : (( أي اتل عليه هذه الألفاظ التي خلقتها )) ، ثم قال بعد ذلك : (( والتي لم يصنفها أحد )) . والأعجب من ذلك أن السقاف تمادى في تدليسه فأحال القارئ إلى كتاب (( خلق أفعال العباد )) للبخاري ، وكأن البخاري يقول بمثل قوله !! وهاهو إمام رضي من أئمة السلف – رضوان الله عليهم أجمعين – يثبت أن هذا القرآن المثبت في المصحف ، المتلو بالألسنة ، المحفوظ في الصدور هو من كلام الله سبحانه غير حادث .  هذا الإمام هو : سفيان بن عيينة – رحمه الله - .

قال الترمذي في (( الجامع )) (2884) : حدثنا محمد بن إسماعيل – ( وهو البخاري ) – قال : حدثنا الحميدى ، حدثنا سفيان بن عيينة – في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي – قال سفيان : لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء و الأرض.  وسند هذا الخبر صحيح . وفيه ما يدل على أن آية الكرسي من كلام الله – على الحقيقة – غير الحادث ، بل الذي هو صفة من صفاته .

وعلى قول السقاف ، فلا بد أن يقول أيضاً أن تلاوة جبريل للنبي ? مخلوقة ، فإن قال بذلك خالف ما عليه السلف ، وإن لم يقل لزمه التسليم بأن ما في المصحف من قرآن غير مخلوق . قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابورى في (( مسائله للإمام أحمد ))(1853) : ((وسمعت أبا عبدالله يقول : من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي . وقال : أرايت جبريل عليه السلام ، حيث جاء إلى النبي ? فتلا عليه ، تلاوة جبريل للنبي ? ، أكان مخلوقاً ؟! ما هو مخلوق )) .

وقد أنكر العلماء – رحمهم الله أجمعين – من قال بمثل مقولة السقاف ، بل كفر بعضهم من اعتقدها أو دان بها ، وإليك جملة من اقوالهم – رحمهم الله تعالى .

قال الإمام احمد بن حنبل – رحمه الله - : (( القرآن علم من علم الله ، ومن زعم أن القرآن مخلوق ، فقد كفر بالله تعالى ))(11) . ونقل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمى في (( اعتقاد الإمام أحمد )) عنه : (( وكان يبطل الحكاية ، ويضلل القائل بذلك ، وعلى مذهبه : أن من قال : إن القرآن عبارة عن كلام الله عز وجل فقد جهل وغلط ))(12) . والحكاية : هي ما ذهب إليه السقاف ، من أن كلام الله عز وجل معنى قائم بذاته ، وأن ما تتلوه الألسنة وتحفظه القلوب ، وما يسطر في الصحف عبارة عنه ، وحكاية له ، وهي دلالات ، والدلالات مخلوقة ، كذا زعموا !!

 وقال الإمام البخاري – رحمه الله – (13) : سمعت عبيدالله بن سعيد ، يقول : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة . قال أبو عبدالله – ( هو البخاري ) - : حركاتهم ، وأصواتهم ، واكتسابهم ، وكتابتهم مخلوقة ، فأما القرآن المتلو المبين ، المثبت في المصحف ، المسطور ، المكتوب ، الموعي في القلوب ، فهو كلام الله ليس بخلق ، قال الله : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } { العنكبوت : 49 } .

وقال الإمام الحافظ بن محمد بن الحسين الآجرى رحمه الله (14) : (( من قال : إن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس ، وهو في المصاحف : حكاية لما في اللوح المحفوظ ، فهذا قول منكر تنكره العلماء ، يقال لقائل هذه المقالة : القرآن يكذبك ، ويرد قولك ، والسنة تكذبك وترد قولك )) . ثم قال (15) : (( حكمه : أن يهجر ، ولا يكلم ، ولا يصلى خلفه ، ويحذر منه )).

 وقال الإمام المفسر الحافظ محمد بن جرير الطبري – رحمه الله – في ذكر اعتقاده المسمى بـ (( صريح السنة )) (16) : (( فأول ما نبدأ فيه بالقول من ذلك كلام الله عز وجل وتنزيله ، إذ كان من معاني توحيده : فالصواب من القول في ذلك عندنا : أنه كلام الله عز وجل غير مخلوق ، كيف كُتب ، وكيف تُلي ، وفي أي موضع قرئ ، في السماء وجد ، أو في الرض حيث حفظ ، في اللوح المحفوظ كان مكتوباً ، أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسوماً في حجر منقوش ، أو في ورق خُطّ ، في القلب حُفظ ، أو باللسان لفظ ، فمن قال غير ذلك ، أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ، أو اعتقد غير ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه ، أو قال بلسانه دائناً به فهو كافر ، حلال الدم ، وبريء من الله والله بريء منه لقول الله جل ثناؤه : { بل هو قرىن مجيد في لوح محفوظ } ، وقال – وقوله الحق - : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فأخبرنا جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب ، وأنه من لسان محمد ? مسموع ، وهو قرآن من محمد مسموع ، وفي اللوح المحفوظ مكتوب ، وكذلك في الصدور محفوظ ، وبألسن الشيوخ والشبان متلو )) .

وقال أبو القاسم بن منده – رحمه الله - : بعد روايته لحديث عوف بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً : (( من قرأ حرفاً من القرآن كُتبت له حسنة ، ولا أقول { ألم ذلك الكتاب } ولكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم … )) . قال : (( والمبتدع يشير بهذه الحروف إلى قرآن سوى ذلك الكتاب ، فقد صار القرآن عنده قرآنين : مجازاً وحقيقته ، والمجاز عنده مخلوق ، وصاحب الحديث يعرف قرآناً غير هذا الذي يراه المبتدع مخلوقاً )) (17) .

وفيما ذكرناه كفاية للبيب في إثبات الكلام لله تعالى ، والرد على السقاف فيما نفاه من ذلك ، وقوله بالحكاية . أعاذنا الله وعامة المسلمين من الضلال بعد الإيمان .


ملاحظة فصول الكتاب كثيرة فمن كانت عنده موجودة على ملف فليرسها إلينا مشكوراً.